اقتسم رغيفه نصفين. لم يكن له وحده. يكسره ويوزعه، بفرح قانا الجليل. يرفع كأسه ويسقي منه، ويرتوي أصحاب القلوب.
اقتسم إنجيله نصفين: «إنجيلي ليس للمسيحيين وحدهم». فعل المحبة أرقى مراتب التبشير. فأقام في ظلال الرسل روحاً، وفي ظلال النبوّة أزمنة. وفّق بين مسيحيته وإسلامه بالمحبة والعطاء والمساكنة والمعايشة والمرافقة… وكان الدرب صعباً وخطيراً. لم يلفّق بين آية وآية. ألّف بين قلب وقلب. فالدين غذاء القلوب، تغرف منه الجموع خبزها المقدس.
اقتسم ما يملك ليوحد ما بينه، ومن يختلف معه، ويختلف إليه. كأنه لم يكن رجل دين. كأنه ولد وتربى ونشأ ووعى وجهد، كي يكون رجل دنيا، دنياه دينه. وليس دينه ودنياه..دنياه بمن فيها من أخوّة الإيمان بالروح، هو دينه. كأنه لم يكن بحاجة إلى نص سابق، لأنه يؤلف نصه المدني، بروح تسمو على ضيق النصوص الدينيّة، إذا تُليت بعقول مغلقة، وقلوب مقفلة، ونفوس مسّها تعصّب جاهل.
اعتدنا أن ندعوه، بلقبه المحبّب: «أبونا سليم». كلما ارتفع في المرتبة، اتّضع في الإقامة. الأرشمندريت، رتبة متقدمة. المطران، رتبة أعلى. النائب البطريركي، رتبة أرفع… ولم نشعر يوماً أنه غير «أبونا سليم». هذا هو اسمه، ولقبه الأرفع. هذا هو عنوانه. هذا هو مساره: أبوّة سليمة في مجتمع مريض. أبوّة متوحدة في مجتمع منقسم. أبوّة محبّة في مجتمع حاقد، أبوّة مسؤولة في مجتمع لا منتم، أبوة بلا سلطة. أبوة لأهل الأرض، والذين كانوا معه مثله، أو شبّه لهم ذلك. لأن أصعب الرسالات، تلك التي لا تتقدمها آية، بل تصنع الآية.
«أبونا سليم» كان سهلاً، يمتنع عن الغموض. ها هو إن مشى خجل منه ظله لخفة حضوره. وكان عصيّاً على الخطأ. جاءت الحرب وأخذت بيته. احتلت الجحافل ديره. لم ينحرف. لم يتعصّب. اعتصم بالآية الوطنيّة، وأصرّ على نسج الحياة الحقيقيّة، بين المسيحيين والمسلمين، في صيدا، مدينته المحبوبة، واجتاز مع رفاقه، امتحان الطهر السياسي.
ابن مشغرة، مسقط رأسه، صار ابن صيدا والجنوب، مسقط روحه.
كان القتل مجانياً، والتهجير نكبة، والتدمير على مرمى النظر في شرق صيدا. لا ناس. لا بيوت. قرابين من البشر هاربة على وطء جراحها. وحدها الذبيحة كانت رفيقة دربه… وما استسلم للغرائز، ولا تحصّن بالآيات، ولا تسلّح بالطائفة.. استمسك بلغة وطنيّة، لا كذب فيها ولا دجل ولا محاباة ولا سياسة. وطنه حياته، وطنه دينه. والإنسان آيته المقدسة.
«أبونا سليم»، لم يكن فلسطينياً بالوراثة، كان فلسطينياً بالانتماء. آمن أن الفلسطيني، هو مسيح العصر، فالتزم به وسار معه على جلجلته. آخاه وحماه وصلّى من أجل. ثم حمل صليبه في المحافل كلها، ولم يهتم لغمزات الرفاق ونظرات الكهنة الآخرين.
وقف إلى جانب فلسطين الفلسطيني، بلحمه ودمه وبؤسه، الفلسطيني الذي يحيا ويعيش تشرده ولجوءه. لم يعش فلسطين، شعاراً. نسجها في لغته ومعاشرته وتضحياته. كأنه كل يوم كان يكتب فصلاً إنجيلياً جديداً، لأهل فلسطين.
كان «أبونا سليم» مرشحاً، بسبب ما أبدعه من حب وعطاء وإنماء في الجنوب، أن يكون مطراناً على صيدا. رفضت اسرائيل، اجتمع أول سفير اسرائيلي في مصر، بمرجعيات دينية وسياسية وبلّغهم: فليكن مطراناً في أي مكان بعيد..لا في صيدا.
للأسف، سُيّم مطراناً على أبرشيّة مقفلة، وأقفلت بوجهه مطرانيّة صيدا ودير القمر. صيدا التي سكنها وأسكنها معه وأغمض عينيه في دفء عينيها. وأتمّ فعل الانتماء إلى الجنوب: حيّاً وميتاً.
من بين قلة قليلة في لبنان، لم يكن لديه لغتان. لغة للعلن، ولغة لأهل خاصته. لا يتقن فنّ التحذلق وفقه التدجيل. هو مع المسلم كما هو مع المسيحي. لا يتثنّى. لا يسمع المسلم كلاماً، بقول نقيضه بين أترابه وأبنائه المسيحيين.
علماني، في عزّ الاصطراع الطائفي.
وطني، في عزّ امحاء الوطن.
قومي، في عزّ أزمنة التخلّي والعجز.
إنساني، في ذروة الانهيار الخلقي والقيمي العالمي.
ثم هو كذلك، بلا دعاية وإعلام، شعّ نوره في العالم، فاختير من بين أبرز الشخصيّات الإنسانيّة في العالم.
وظلّ «أبونا سليم»، كما هو، أبونا سليم.
أمس، أغمض عينيه… لم يمت… إنه ذاهب إلينا، بما خلّفه بين محبيه ومعارفه، ليصلي، ويكسر رغيفه بيننا، مات «أبونا سليم». هذه هي مناولته الأولى في العالم الآخر. وهذه هي كسرة سيرته، لمن آمن أن الله، مقيم في وجوه الفقراء والمعذبين والمشردين و…الفلسطينيين.
يوحنا فم الذهب، لقب مؤلف «القداس الإلهي».
سليم يد الذهب، لقب مؤلف القداس المدني، للمؤمنين كافة، ومن الأديان جميعاً.
اقتسم إنجيله نصفين: «إنجيلي ليس للمسيحيين وحدهم». فعل المحبة أرقى مراتب التبشير. فأقام في ظلال الرسل روحاً، وفي ظلال النبوّة أزمنة. وفّق بين مسيحيته وإسلامه بالمحبة والعطاء والمساكنة والمعايشة والمرافقة… وكان الدرب صعباً وخطيراً. لم يلفّق بين آية وآية. ألّف بين قلب وقلب. فالدين غذاء القلوب، تغرف منه الجموع خبزها المقدس.
اقتسم ما يملك ليوحد ما بينه، ومن يختلف معه، ويختلف إليه. كأنه لم يكن رجل دين. كأنه ولد وتربى ونشأ ووعى وجهد، كي يكون رجل دنيا، دنياه دينه. وليس دينه ودنياه..دنياه بمن فيها من أخوّة الإيمان بالروح، هو دينه. كأنه لم يكن بحاجة إلى نص سابق، لأنه يؤلف نصه المدني، بروح تسمو على ضيق النصوص الدينيّة، إذا تُليت بعقول مغلقة، وقلوب مقفلة، ونفوس مسّها تعصّب جاهل.
اعتدنا أن ندعوه، بلقبه المحبّب: «أبونا سليم». كلما ارتفع في المرتبة، اتّضع في الإقامة. الأرشمندريت، رتبة متقدمة. المطران، رتبة أعلى. النائب البطريركي، رتبة أرفع… ولم نشعر يوماً أنه غير «أبونا سليم». هذا هو اسمه، ولقبه الأرفع. هذا هو عنوانه. هذا هو مساره: أبوّة سليمة في مجتمع مريض. أبوّة متوحدة في مجتمع منقسم. أبوّة محبّة في مجتمع حاقد، أبوّة مسؤولة في مجتمع لا منتم، أبوة بلا سلطة. أبوة لأهل الأرض، والذين كانوا معه مثله، أو شبّه لهم ذلك. لأن أصعب الرسالات، تلك التي لا تتقدمها آية، بل تصنع الآية.
«أبونا سليم» كان سهلاً، يمتنع عن الغموض. ها هو إن مشى خجل منه ظله لخفة حضوره. وكان عصيّاً على الخطأ. جاءت الحرب وأخذت بيته. احتلت الجحافل ديره. لم ينحرف. لم يتعصّب. اعتصم بالآية الوطنيّة، وأصرّ على نسج الحياة الحقيقيّة، بين المسيحيين والمسلمين، في صيدا، مدينته المحبوبة، واجتاز مع رفاقه، امتحان الطهر السياسي.
ابن مشغرة، مسقط رأسه، صار ابن صيدا والجنوب، مسقط روحه.
كان القتل مجانياً، والتهجير نكبة، والتدمير على مرمى النظر في شرق صيدا. لا ناس. لا بيوت. قرابين من البشر هاربة على وطء جراحها. وحدها الذبيحة كانت رفيقة دربه… وما استسلم للغرائز، ولا تحصّن بالآيات، ولا تسلّح بالطائفة.. استمسك بلغة وطنيّة، لا كذب فيها ولا دجل ولا محاباة ولا سياسة. وطنه حياته، وطنه دينه. والإنسان آيته المقدسة.
«أبونا سليم»، لم يكن فلسطينياً بالوراثة، كان فلسطينياً بالانتماء. آمن أن الفلسطيني، هو مسيح العصر، فالتزم به وسار معه على جلجلته. آخاه وحماه وصلّى من أجل. ثم حمل صليبه في المحافل كلها، ولم يهتم لغمزات الرفاق ونظرات الكهنة الآخرين.
وقف إلى جانب فلسطين الفلسطيني، بلحمه ودمه وبؤسه، الفلسطيني الذي يحيا ويعيش تشرده ولجوءه. لم يعش فلسطين، شعاراً. نسجها في لغته ومعاشرته وتضحياته. كأنه كل يوم كان يكتب فصلاً إنجيلياً جديداً، لأهل فلسطين.
كان «أبونا سليم» مرشحاً، بسبب ما أبدعه من حب وعطاء وإنماء في الجنوب، أن يكون مطراناً على صيدا. رفضت اسرائيل، اجتمع أول سفير اسرائيلي في مصر، بمرجعيات دينية وسياسية وبلّغهم: فليكن مطراناً في أي مكان بعيد..لا في صيدا.
للأسف، سُيّم مطراناً على أبرشيّة مقفلة، وأقفلت بوجهه مطرانيّة صيدا ودير القمر. صيدا التي سكنها وأسكنها معه وأغمض عينيه في دفء عينيها. وأتمّ فعل الانتماء إلى الجنوب: حيّاً وميتاً.
من بين قلة قليلة في لبنان، لم يكن لديه لغتان. لغة للعلن، ولغة لأهل خاصته. لا يتقن فنّ التحذلق وفقه التدجيل. هو مع المسلم كما هو مع المسيحي. لا يتثنّى. لا يسمع المسلم كلاماً، بقول نقيضه بين أترابه وأبنائه المسيحيين.
علماني، في عزّ الاصطراع الطائفي.
وطني، في عزّ امحاء الوطن.
قومي، في عزّ أزمنة التخلّي والعجز.
إنساني، في ذروة الانهيار الخلقي والقيمي العالمي.
ثم هو كذلك، بلا دعاية وإعلام، شعّ نوره في العالم، فاختير من بين أبرز الشخصيّات الإنسانيّة في العالم.
وظلّ «أبونا سليم»، كما هو، أبونا سليم.
أمس، أغمض عينيه… لم يمت… إنه ذاهب إلينا، بما خلّفه بين محبيه ومعارفه، ليصلي، ويكسر رغيفه بيننا، مات «أبونا سليم». هذه هي مناولته الأولى في العالم الآخر. وهذه هي كسرة سيرته، لمن آمن أن الله، مقيم في وجوه الفقراء والمعذبين والمشردين و…الفلسطينيين.
يوحنا فم الذهب، لقب مؤلف «القداس الإلهي».
سليم يد الذهب، لقب مؤلف القداس المدني، للمؤمنين كافة، ومن الأديان جميعاً.